فصل: سورة الأحقاف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [32].
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} أي: أي: شيء هي؟ أي: لا نستيقن بها: {إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} أي: إنها كائنة وآتية.

.تفسير الآيات (33- 35):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [33- 35].
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} أي: قبائح أعمالهم، أو عقوبات أعمالهم السيئات: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} يعني الجزاء: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} أي: نترككم في العذاب ترك ما يُنسى، كما تركتم التأهب له. فـ: {نَنْسَاكُمْ} استعارة أو مجاز مرسل: {وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي: خدعتكم حتى آثرتموها على الآخرة وزعمتم أن لا حياة سواها: {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} أي: من النار: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي: يرضوه، من الإعتاب، وهو إزالة العتب. كناية عن الإرضاء، أو: لا هم يردون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة، فما بعد الموت مستعتب.

.تفسير الآيات (36- 37):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [36- 37].
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} أي: الثناء الكامل. قال ابن جرير: أي: فلله الحمد على نعمه، وأياديه عند خلقه، فإياه فاحمدوا أيها الناس، فإن كل ما بكم من نعمة فمنه، دون ما تعبدون من دونه، من آلهة ووثن: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: الاستعلاء، ونهاية الرفع والكبر على كل شيء، وغاية العلو، والعظمة باستغنائه عنه، وافتقاره إليه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي: القوي القاهر لكل شيء: {الْحَكِيمُ} قال القاشاني: أي: المرتب لاستعداد كل شيء، بلطف تدبيره، المهيّء لقبوله، لما أراد منه من صفاته، بدقيق صنعته، وخفي حكمته: {لا إله إلا هو رب العالمين}.
وافق الفراغ من تفسير هذه السورة قبيل ظهر الإثنين رابع عشر جمادى الآخرة عام 1326 بمنزلنا بدمشق الشام. بقلم جامعه جمال الدين القاسمي.

.سورة الأحقاف:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

القول في تأويل قوله تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} [1- 3].
{حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} أي: الحكمة ولإقامة العدل في الخلق {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: وبتقدير أجل معين لكل منها، يفنيه إذا هو بلغه، وهو يوم القيامة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا} أي: من هول ذلك اليوم: {مُعْرِضُونَ} أي: لا يؤمنون.

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [4].
{قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أي: من الأوثان التي تعبدونها {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أي: أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضيّ بالاستقلال، أو شيء سماوي بالشركة، حتى تستحق العبادة {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا} تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي، بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي. أي: ائتوني بكتاب إلهي من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد، وإبطال الشرك، دالّ على صحة دينكم {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} أي: أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين، شاهدة باستحقاقهم للعبادة {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: في دعواكم، فإنها لا تكاد تصح، ما لم يقم عليها برهان عقلي، أو سلطان نقلي. وحيث لم يقم عليها شيء منهما، وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل، تبين بطلانها.

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [5].
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ} أي: دعاءه لعجزه عنها: {إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} أي: لأنهم إما جمادات، وإما مسخّرون مشغولون بأحوالهم. والغفلة: مجاز عن عدم الفائدة فيها، أو هو تغليب لمن يتصور منه الغفلة على غيره.
لطيفة:
قال الناصر: في قوله: {إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ} نكتة حسنة. وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المغيّا عندها، لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية؛ لأنهم في القيامة أيضاً لا يستجيبون لهم. فالوجه- والله أعلم- أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها، وإن وافق ما قبلها، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني، حتى كأن الحالتين، وإن كانتا نوعاً واحداً لتفاوت ما بينهما، كالشيء وضده، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة، لا تزيد على عدم الاستجابة. والحالة الثانية التي في القيامة، زادت على عدم الاستجابة بالعداوة، وبالكفر بعبادتهم إياهم. فهو من وادي ما تقدم آنفاً في سورة الزخرف في قوله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 29- 30] انتهى.

.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [6].
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} أي: جمعوا يوم القيامة لموقف الحساب: {كَانُوا} أي: آلهتهم: {لَهُمْ أَعْدَاء} أي: لتبرئهم منهم. قال الشهاب: أعداء استعارة، أو مجاز مرسل للضارّ {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} قال ابن جرير: أي: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا، بعبادتهم جاحدين؛ لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرّأنا إليك منهم، يا ربنا! أي: فالتكذيب بلسان المقال، قصداً إلى بيان أن معبودهم في الحقيقة الشياطين، وأهواؤهم. وقال القاشاني: كانوا أعداء، لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم، لا تكون إلا لغرض نفسانيّ. وكذا استعباد الموالي لخدمهم، فإذا ارتفعت الأغراض، وزالت العلل والأسباب، كانوا لهم أعداء، وأنكروا عبادتهم، ويقولن: ما خدمتمونا، ولكن خدمتم أنفسكم. كما قيل في تفسير قوله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67] انتهى.
وقيل: الضمير في: {كَانُوا} في الموضعين، للعابدين، لئلا يلزم التفكيك. وفيه نظر: لأنه اختلاف المتبادر من السياق؛ إذ هو لبيان حال الآلهة معهم، لا عكسه، ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم. وتسميته كفراً، خلاف الظاهر أيضاً. وقد أوضح ذلك آية: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82]. والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

.تفسير الآية رقم (7):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [7].
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: بادهوه بالجحود أول ما سمعوه، من غير إجالة فكر، ولا إعمال رؤية. واللام في: {لِلْحَقِّ} لام الأجل متعلقة بـ: {قَاْلَ} وقيل: بمعنى الباء متعلقة بـ: {كَفَرُوا} وعُدّي الكفر باللام حملاً على نقيضه، وهو الإيمان، فإنه يُعدى بها نحو: {أَنُؤْمِنُ لَكَ} [الشعراء: 111].

.تفسير الآية رقم (8):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [8].
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي: لا تقدرون أن تدفعوا عني سوءاً، إن أصابني به. وأم- على ما قالوا- منقطعة مقدرة ببل، الإضرابية وهمزة الاستفهام، المتجوز به عن الإنكار والتعجيب، ووجه كون الافتراء أشنع من السحر، حتى أضرب عنه، أن الكذب خصوصاً على الله متفق على قبحه، حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر، فإنه، وإن قبح، فليس بهذه المرتبة، حتى تكاد تعد معرفته من السمات المرغوبة. وقال الناصر: هذا الإضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفاً في بابها، فإنه انتقال إلى موافق، لكنه أزيد من الأول، فنزل لزيادته عليه، مع ما تقدمه مما ينقص عنه، منزلة المتنافيين، كالنفي والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر، وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات، أشدّ وأبعد من نسبتها إلى أنها سحر. فأضرب عن ذلك الأول إلى ما ذكر ما هو أغرب منه. انتهى.
{هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تخوضون في حقه من أنه سحر أو أفك: {كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: يشهد لي بالصدق بما يؤيدني به من آياته، وصدق مواعيده: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي: لمن راجع منكم الكفر، وتاب، وآمن.

.تفسير الآية رقم (9):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [9].
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ} أي: ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه. قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم، فلم تستنكرون بعثتي، وتستبعدون رسالتي، كقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عِمْرَان: 144]، والبدع: كالبديع، بمعنى الجديد المبتدأ. قال ابن جرير: ومن البدع قول عديّ بن زيد:
فَلَاْ أَنَاْ بِدْعٌ مِنْ حَوَاْدِثَ تَعْتَرِيْ ** رِجَاْلاً عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسَىْ وَأَسْعُدِ

ومن البديع قول الأحوص:
فَخَرَتْ فَانْتَمَتْ فَقُلْتُ: ذَرِيْنِيْ** لَيْسَ جَهْلٌ أُتِيْتِهِ بِبِدِيْعِ

{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} قال أبو السعود: أي: أي: شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان، من أفعاله تعالى، وماذا يقدّر لنا من قضاياه. وعن الحسن رضي الله عنه: ما أدري ما يصير إليه أمري، وأمركم في الدنيا. وقيل: يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة. والأظهر أن ما عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية، دون ما سيقع في الآخرة، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين. انتهى.
وهذا الأظهر يقرب من قول الحسن. وهو ما عول عليه ابن جرير. قال ابن كثير: بل لا يجوز غيره. كيف؟ وهو صلى الله عليه وسلم جازم بأنه صائر إلى الجنة، هو ومن اتبعه بإحسان. وأما في الدنيا، فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره، وأمر مشركي قريش، أيؤمنون، أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أم العلاء، وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: طار لنا في السكنى، حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، عثمان بن مظعون رضي الله عنه، فاشتكى عثمان عندنا، فمرضناه. حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: رحمة الله عليك، أبا السائب! شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير. والله! ما أدري- وأنا رسول الله- ما يفعل بي!» قالت: فقلت: والله! لا أزكي أحداً بعده أبداً وأحزنني ذلك. فنمت، فرأيت لعثمان رضي الله عنه عيناً تجري، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك عمله» فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، وفي لفظ له: «ما أدري- وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- ما يفعل به». وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ، بدليل قولها: فأحزنني ذلك. وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعيّن بالجنة، إلا الذي نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة، وابن سلام، والعميصاء، وبلال، وسراقة، وعبد الله بن عَمْرو بن حرام، والدجابر، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، وزيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم. انتهى كلام ابن كثير.
وقال المهايمي: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} أي: فيما لو يوح إليّ. والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي. ولم يكن لي أن أضم إلى الوحي كذباً من عندي.
{إِنْ أَتَّبِعُ} أي: في تقرير الأمور الغيبية: {إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: منذر عقاب الله على كفركم به، أَبَان لكم إنذاره، وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم، وسعادتكم.

.تفسير الآية رقم (10):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [10].
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} أي: القرآن منزلاً من لدنه، عليّ. لا سحراً، ولا مفترى كما تزعمون: {وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: من الواقفين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة: {عَلَى مِثْلِهِ} أي: مثل القرآن، وهو ما في التوراة من الأحكام المصدقة للقرآن من الإيمان بالله وحده، وهو ما يتبعه، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196]، وقوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18- 19]، أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى. أو على مثل شهادة القرآن، فجعل شهادته على أنه من عند الله، شهادة على مثل شهادة القرآن؛ لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله، أو المثل صلة والفاء، في قوله تعالى: {فَآمَنَ} للدلالة على أنه سارع إلى الإيمان بالقرآن، لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق: {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أي: عن الإيمان به بعد هذه الشهادة.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} استئناف مشعر بأن كفرهم، لضلالهم المسبب عن ظلمهم، ودليل على الجواب المحذوف. مثل: أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ. أو فَمَنَ أَضَل ُّمِنْكُمْ. وذلك عدم الهداية مما ينبئ عن الضلال قطعاً، فيكون كقوله في الآية الأخرى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52].
قال أبو السعود: ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم، لظلمهم.
تنبيه:
روي أن الشاهد هو عبد الله بن سلام، فتكون الآية مدنية مستثناة من السورة، كما ذكره الكواشي؛ لأن إسلامه كان بالمدينة. وأجيب: بأن لا حاجة للاستثناء، وأن الآية من باب الإخبار قبل الوقوع، كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} [الأعراف: 48]. ويرشحه أن: {شَهِدَ} معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلاً، فلا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ويكون تفسيره به بياناً للواقع، لا على أنه مراد بخصوصه منها. هذا ما حققوه. ويقرب مما نذكره كثيراً من المراد من سبب النزول في مثل هذا، وأنه استشهاد على ما يتناوله اللفظ الكريم.
ثم أشار إلى حكاية نوع من أباطيلهم في التنزيل والمؤمنين به، فقال سبحانه: